عندما يتعلق الأمر بالمياه، قد تعتقد أن مدن البحيرات العظمى ستكون موضع حسد من مدن ومناطق كثيرة في العالم. فهذه البحيرات تحتوي على 84% من إجمالي المياه العذبة السطحية في أميركا الشمالية. لكن حتى هنا، فإننا نكافح من أجل توفير مياه شرب آمنة وبأسعار معقولة لملايين الناس، وغالباً ما تكون مجتمعات ملونة. في جميع أنحاء المنطقة، تواجه هذه المجتمعات والأحياء ذات الدخل المنخفض فواتير مياه عالية، ومخاطر تلوث مرتفعة، وإغلاقات واسعة النطاق.. وكلها مظاهر لتاريخ يود كثيرون نسيانه. إن السياسات «المنفصلة» للقرن العشرين ما تزال معنا، وهي تفسر لماذا لا تستطيع المجتمعات الحصول على مياه شرب مأمونة كأمر مفروغ منه، حتى تلك التي تعيش وسط البحيرات العظمى الرائعة.
وهذا العام في ديترويت، حيث يبلغ معدل الفقر 35%، تم إغلاق المياه عن 11.800 أسرة بسبب عدم القدرة على دفع الفواتير اعتباراً من شهر أغسطس الماضي، مقارنة بـ 44.000 حالة إغلاق للمياه في 2014، وهو تقليد سنوي يعرض الصحة الشخصية والعامة للخطر.
ولم تتمكن شيكاغو، التي كانت ذات يوم جريئة بما يكفي لتغيير تدفق النهر الذي يحمل اسمها بحثاً عن مياه الشرب النظيفة، من استجماع الإرادة السياسية للتعامل مع أنابيب الرصاص في نظامها المائي. ومع وجود 385.000 من هذه الأنابيب، تعتبر شيكاغو صاحبة العدد الأكبر منها، مقارنة بأي مدينة أخرى، ما يسبب معدلات تلوث خطرة تنذر بتعرض الأسر لمستويات غير آمنة من الرصاص، وفقاً لصحيفة «شيكاغو تريبيون» العام الماضي. وحتى عام 1986، كانت هذه الأنابيب إلزامية، رغم ملاحظة تأثيرها السام على المياه منذ سنوات عديدة. ومن الصعب إيجاد حل على المدى الطويل: ففي فصل الربيع الماضي، رفض قاضٍ دعوى جماعية تطالب المدينة باستبدال الأنابيب، مع اعترافه بأنها تلوث المياه.
وهناك أيضاً أزمة المياه في «فلينت» بولاية ميشيجان. فقد كان سوء التعامل مع مياه المدينة قاتلاً، ولم ينتج عنه فقط تسرب الرصاص عبر الأنابيب، بل أيضاً تلوث جرثومي وارتفاع في مواد مسرطنة وتفشي مرض الالتهاب الرئوي الذي أصاب نحو 90 شخصاً وقتل 12 على الأقل.
لقد بنينا مدننا من الرصاص، وأُسست شبكة الأنابيب تحت الأرض مراكزَنا الحضرية التي لا يمكن تفتيتها بسهولة. فكل الأنابيب، وعددها نحو 6 ملايين في جميع أنحاء الولايات المتحدة، مصنوعة من هذا السم العصبي، تشكل خطراً. وفي جميع أنحاء البلاد نجد الأشخاص الملونين هم أكثر من يكافحون. وقد أظهر تحليل للبيانات الصادرة عن وكالة حماية البيئة أن عشرات الملايين من الأميركيين يتعرضون للمياه الملوثة، وخاصة في المجتمعات الفقيرة وغير البيضاء.
وخلال القرن العشرين، جذبت مدن البحيرات العظمى، المنشغلة بالصناعة، آلاف المهاجرين الأميركيين من أصول أفريقية بحثاً عن حياة أفضل. لكن التفرقة في المعاملات المصرفية وغيرها من الممارسات التمييزية، حرمت القادمين الجدد من الوصول إلى معظم الأحياء. وكان نظام الإسكان يجعل المنزل أقل قيمة إذا استأجره مالك أسود.
وكان الهدف من وضع قوانين عادلة للإسكان إزالة مظاهر التمييز العنصري وتصحيح وضع من اللامساواة، لكنه تسبب في رحيل البيض من الطبقة العليا والمتوسطة من المدن الرئيسية. وأفزع هذا الفراغ أماكن مثل ديترويت وميلوكي وجاري بولاية إنديانا، حتى مع اتساع دائرة الثروة المحيطة بهم. وفي فلينت، أظهر التعداد السكاني الأميركي أول انخفاض سكاني عام 1970، بعد عامين من مصادقة الناخبين على قانون الإسكان العادل. ومع تفجر أزمة المياه في فلينت عام 2014، تقلص عدد السكان من 200 ألف إلى 57 ألفاً، منهم نسبة 98% من الأميركيين الأفارقة.
هذه المدن المتقلصة يقطنها عدد أقل من دافعي الضرائب للحفاظ على شبكات المياه المصممة لخدمة ضعف العدد الحالي من السكان، بالإضافة إلى الصناعات التي انتقلت إلى مكان آخر. كما تقادمت البنية التحتية الضخمة بدرجة جعلت صيانتها مكلفة، مما أدى أيضاً إلى كميات هائلة من المياه المفقودة عبر التسريبات والانقطاعات. ولهذا السبب، يدفع السكان فواتير مياه أعلى من بقية البلاد.
وقد تمثل التمييز العنصري أيضاً في افتقار بعض المدن إلى البنية التحتية، ما عرّضها أكثر من غيرها للكوارث البيئية. وانتقل عدم المساواة في البنية التحتية عبر الأجيال، ولا يوجد علاج له سوى الشمول.
آن كلارك
مؤلفة كتاب «المدينة المسمومة.. مياه فلينت والمأساة الحضرية الأميركية»
ينشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست وبلومبيرج نيوز سيرفس»